ليس موضوع هذا المقال بالجديد
في الساحة الفكرية، ذلك أن قضية العنف طرحت للنقاش منذ أمد بعيد. غير أن الدافع
إلى إعادة طرح مشكلة العنف اليوم، ليس من باب الترف الفكري، بل مرده إلى مظاهر
العنف الجلية التي تملأ حياتنا اليومية صباحا و مساء. إذ يكفيك المكوث لدقائق أمام قناة تلفزيونية
إخبارية، لتسجل وتشهد استفحال العنف بين أفراد الإنسان.
لا مناص من الاعتراف اليوم
بمدى تجذر العنف في السلوك الإنساني واعتباره محددا أساسا من محددات هذا الكائن،
الذي غالبا ما يحاول تقديم نفسه في صورة وديعة تملؤها قيم التسامح والخير.أما عن
تجذر العنف في السلوك البشري فيكفينا العودة إلى حادثة ابني آدم التي تخلف عنها
مقتل أحد الأخوين على يد الآخر، والحدث مروي في القرآن الكريم بدءا من الآية
السادسة بعد العشرين حتى الآية الأولى بعد الثلاثين من سورة المائدة.
هكذا إذن فالعنف ليس عرضا في تاريخ البشرية، بل
إنه ظل حاضرا ولصيقا بالممارسة البشرية إلى يوم الناس هذا.
إن مظاهر العنف وأشكاله
البارزة من عنف جسدي ورمزي تدفع إلى إعادة التفكير في مفهوم الإنسان، خاصة ونحن في
عصر توفر فيه لهذا الإنسان من أسباب الرفاه والعيش اليسير ما لم يكن متاحا ماضيا. فما سبب هذا الحضور القوي للعنف في الحاضر؟
في الحقيقة يصعب حصر أسباب
العنف وعدها ذلك أن هذه الظاهرة ترتبط بظواهر أخرى تزيد من اشتعال فتيلها. لذا
سنقتصر الحديث في هذه السطور على سبب يبدو لنا من أهم الأسباب التي تولد العنف وتجعل دائرته تتسع بين أفراد
المجتمع، ألا وهو التعصب الفكري.
والتعصب الفكري يعني الإيمان
بصحة ما تحمله الذات من تصورات وأفكار تعتبرها هي وحدها ـ أي تلك التصورات
والافكارـ الصحيحة، وهي ما يجب أن يأخذ به الآخر وإلا فإنه عدو للذات وبالتالي وجب
القضاء عليه، وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه: العقل المنغلق. فالعقل المنغلق لا يمكن
أن ننتظر منه سوى إنتاج الدغمائية والوثوقية القاتلة، إذ يظل العقل ساكنا بدون حركة
ولا يمكن لبركة الماء الساكنة أن تنتج إلا الديدان وخسائس الحشرات، والسير بالحياة
إلى الموت. ولعل السؤال الذي قد يتبادر اللحظة للأذهان: كيف نجعل العقل يتحرك؟ كيف
نحرر العقل من قيود التعصب؟ كيف ننتقل بالعقل من الانغلاق إلى الانفتاح؟
ها هنا تحضر الفلسفة لتقدم
لنا وصفة طبية تناولها بانتظام لن يسير بنا إلا في طريق الشفاء. فكيف نتداوى
بالفلسفة وليس كل الناس بفلاسفة؟
قد لا نكون في أمس الحاجة لأن نكون فلاسفة، ذلك
أن الأمر لا يتطلب منا سوى تسليح العقل ببعض أهم أدواتها حتى نجعل منه عقلا أكثر
انفتاحا وحركة، و أولها الشك : والذي يجب أن يكون وسيلة لبلوغ الحقيقة واليقين لا
غاية في حد ذاته. وسيلة تفرض على المرء إعادة فحص معارفه ومداركه ومساءلتها
وزعزعتها قصد إقامتها على أساس أكثر متانة وقوة. والحال أننا نمارس الشك في حيانتا
اليومية من حيث نعي أو لا نعي، غير أننا نمارسه في ما هو عملي فقط. فتجدنا على
سبيل المثال نتأكد من كون الباب مغلقا فور خروجنا من البيت، ونتأكد من صحة المبلغ
الذي طلبنا سحبه من الشباك الاتوماتيكي، في حين أن افكارنا الفردية أو الجماعية
نرفض تعريضها لهذه العملية مخافة بيان تهافتها وبالتالي ضرورة هدمها وبناء أفكار
ومعارف جديدة. وبهذا تصدق قولة أن الانسان يفضل الوهم إن كان يسعده على الحقيقة.
وثاني هذه الأدوات : النقد، والذي يعني عدم
التسليم بأي قضية كائنة ما كانت حتى يتم تقليبها على كافة أوجهها والتيقن من
صدقها. فإذا ما تاملت الواقع المعيش اليوم، ستجد أن الأفراد غالبا ما يأخدون بما
يجدونه من أفكار سواء في المدارس أو المجتمع أو وسائل الإعلام ويعتقدون بها دون
تمحيصيها وتعريضها للمساءلة والنقد، بينما تجدهم على العكس من ذلك يمارسون النقد
في شؤونهم العملية.
لا نزعم في هذا المقال أن ما
قدم هو الجواب الشافي الكافي والمقاربة الصحيحة لقضية العنف، وإلا نكون نحارب
الدغمائية بالدغمائية، بل فقط هي محاولة لإماطة اللثام عن جانب من جوانب المشكلة
المتعددة.
ذ. عبد السلام مالكي

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire