تقديم:
من
عجيب الأخبار أن بعض القصور التي يعتقد الناس بأنها حديثة التأسيس وعهد استقرار
الانسان بها لا يتجاوز المئة عام لها تاريخ ضارب في القدم وحضارة عريقة تمتد إلى
قرون طويلة من الزمن، كما هو الشأن بالنسبة لقصر الدويرة.
ولما
كان لهذا القصر ما كان من تراث عريق وتاريخ مجيد، كان لزاماً علينا أن ننبش في
الذاكرة الجماعية في محاولة لتدوينها وحفظها من الضياع، ولقد حاولنا أن نعتمد على
منهج منطقي في تحقيق الروايات الشفوية التي تم الاعتماد عليها، ومحاولة تأكيدها أو
نفيها بما توفر لدينا من كتب التاريخ.
الموقع
والتسمية:
بني
القصر القديم للدويرة على موقع طبيعي ممتاز وهو عبارة عن سهول قليلة الارتفاع على
يسار وادي زيز. واختيار هذا المكان لبناء القصر تبرره حاجة السكان آنذاك إلى
الاستفادة من الوادي لممارسة النشاط الزراعي. ويتاخم هذا القصر من الشرق الجبل،
ومن الغرب سهولا رملية تصل إلى حدود قصر الزاوية الجديدة وإلى حدود الجرف جهة
الجنوب الغربي، ومن الشمال قصر البطاطحة، ومن الجنوب قصر المعاضيد.
تذكرُ
الرواية المحلية أن تاريخ ظهور تسمية "الدويرة" يعود إلى القرن السابع
عشر حينما دخل مولاي هاشم بن الشريف إلى مجالها الجغرافي فاراً من يهودي كان يريد
قتله، فوجد بها رجلاً اسمه سيدي موسى بن ميمون كان يشتغل راعيا للغنم، فلما علم أن
ضيفه من آل البيت استقبله حسن استقبال، وآواه عنده، فلما رأى فيه الرجل الشجاع
والعارف بما بينه وبين ربه وزوجه بنته فأعطاه داراً صغيرة هي "دويرة
البقر" ليسكن فيها، فتم إطلاق تسمية الدويرة على القصر. وفي رواية أخرى، كان
يسمى القصر ب" القصبة"، ولم يكن بها معمارٌ ولا منازل سوى داراً كانت
تسمى بدار البقر، فاستبدلت الناس تسمية القصبة بالدار ثم بالدويرة فيما بعد.
قصر
الدويرة وإشكالية السكان الأوائل:
إن
البحث في تاريخ السكان الأوائل لقصر الدويرة لن يكون متأتيا إلا بوجود مادة مصدرية
موثوقة، أما الاعتماد على الروايات الشفهية لوحدها فإنها تجعل من البحث ناقصاً
وغير مكتمل. لكن عزمنا على سبر الأغوار والنبش في الذاكرة الشفوية واستحضار ما
يساعد على تأكيدها أو نقضها في كتب التاريخ القديمة أفضى بنا إلى بناء مجموعة من
الفرضيات التاريخية نجدها الأقرب إلى الحقيقة.
جميع
الروايات تؤكد على أن مولاي هاشم بن الشريف هو من وضع اللبات الأولى للقصر القديم للبلدة،
لكنه لم يكن من سكانها الأوائل، فالرواية التي عرضناها في المحور السابق (الموقع
والتسمية) تبرز أنه لما دخل القصر وجد الرجل المضياف سيدي أحمد بن ميمون الذي كان
له بيت (دويرة البقر) وكان يعيش على نمط رعي الأغنام.
من أهم الأقوام أيضا التي عاشت قبل مولاي هاشم
بن الشريف هناك أولاد أحمد (اولاد احمد) وأولاد بلغيت المعروفون بحمداوة، والذين بنوا
مساكن لهم في سكات، وهي المنطقة التي تحولت اليوم إلى مجموعة من الفدادين التابعة
لواحة النخيل. وتضيف الرواية الشفوية أنه لما استقرت العرب
(أحفاد مولاي هاشم بن الشريف وعرب سجلماسة) بالقصر القديم، طغى حمداوة فاستقر عند
سكان القصر القديم قرار طردهم من البلدة، فكانوا يضايقون أحد رجالهم ويجبرونه على
بيع ممتلكاته وأراضيه، حتى إذا شد رحاله جهة الشمال ودنا من قصر البطاطحة، تعرض له
فريق آخر فنزعوا منه ماله، ثم يعودون
ليجبروا أحداً آخر لبيع فدادينه، وهكذا دواليك حتى تمكنوا من طرد جميع الحمداويين.
الرواية
نفسها يؤكدها شيوخ قصر تمعاركيت، ويضيفون أن الحمداويين لما وقع لهم ما وقع من طرد
وتشريد، عزموا العزم على أن ينتقموا شر انتقام. فكان من عادات أهل قصر الدويرة أن
يقيموا عرساً جماعياً بعد موسم الحصاد يزوجون فيه خيرة شبابهم وأصلحهم، فلما سمع
حمداوة بالخبر، اختاروا سبعة من خيرة رجالهم وحمل كل واحد منهم بندقية محشوة
بالرصاص، فدخلوا العرس ملثمين لكي لا يكشف أمرهم، فانتظروا اللحظة المناسبة فقتلوا
العرسان السبعة وفروا هاربين. ويرقد جثمان العرسان السبعة في المقبرة الصغيرة
الواقعة بالقرب من المقبرة الجديدة، ولازالت الشيوخ اليوم يسونها بمقبرة
"سبعة عرسان".
ومن جهة أخرى، يؤكد الأستاذ يوسف عزاوي أن مرد
الحرب التي دارت رحاها بين أمازيغ ايت عطا وعرب قصر الدويرة كان سببها ادعاء
الأمازيغ أحقيتهم بالأرض، والوادي والمراعي، ودافعهم في ذلك أنهم كانوا يعيشون _
قبل استقرارهم _ على الترحال، فكانوا في فترة الخير الوفير يخيمون على ضفاف نهر
زيز ردحاً من الزمن يرعون ماشيتهم وينصبون خيامهم، فإذا ندر الماء وشح الكلأ
يجمعون رحلهم ومتاعهم ويسافرون إلى منطقة أخرى، فلما سمعوا بأن عرب تافيلالت قد
دخلوا المنطقة وبنوا منازلا من القش والطين، جمعوا لهم جيشاً من المحاربين وأتوا
ينازعوهم، وقد شجعهم على ذلك دخولهم إلى معظم قصور الرتب، لكن بأس أحرار قصر
الدويرة وفرسانها كان أشد من بأسهم، فلم يظفروا بشيء.
إن
تعدد هذه الأقوام وتضارب الروايات بخصوص السكان الأوائل الذين عمروا المجال
الجغرافي لقصر الدويرة يدفع بنا إلى الاعتقاد بإمكانية تواجد تأسيس قبل الفترة
التي عاش فيها مولاي هاشم بن الشريف، وهو أمر وارد ومحتمل. في هذا السياق، لا يجب
أن نغفل أن قصر الدويرة إلى جانب مجموعة من القصور الأخرى ينتمي إلى مجال ترابي
واسع هو دائرة الرتب، الدائرة نفسها التي كان لها من الصيت ما كان بسبب جوارها
لإقليم سجلماسة.
وفي
صدد حديثه عن دائرة الرتب، يؤكد الرحالة الشهير والمؤرخ الكبير الحسن بن محمد
الوزان (1496م - 1549) في كتابه الغني عن التعريف والموسوم بوصف افريقيا Description de l’Afrique أن الرتب:
"هي أيضا تتاخم مضغرة وتمتد على طول زيز شطر الجنوب على
مسافة نحو خمسين ميلا (بل 20 ميلا أي 32.19 كيلومتراً كما يضيف المترجم) إلى إقليم
سجلماسة وبها عدد لا يحصى من القصور وبساتين النخيل. والسكان خاضعون للأعراب،
بخلاء جداً وجبناء، لا يقدر مائة من خيرة فرسانهم على مجابهة عشرة من فرسان
الأعراب يخدمون أراضيهم لهؤلاء الأعراب كما لو كانوا عبيداً لهم. وتتاخم هذه
الدائرة من الشرق جبلا غير مأهول، ومن الغرب سهلاً خاليا رمليا يخيم فيه الأعراب
عند عودتهم من الصحراء."[2]
القولة
أعلاه هي كل ما قاله الرحالة في حديثه عن الرتب قبل أن ينتقل إلى الحديث عن إقليم
سجلماسة ولم يضف شيئاً آخر. وهنا يجب أن نستحضر بأن الحسن بن محمد الوزان عاش قبل
مولاي هاشم بن الشريف بحوالي قرن ونصف من الزمن (كما سيتضح لنا فيما هو لاحق)،
الشيء الذي يجعل فرضية وجود تأسيس من قبل أمر محتمل ووارد، خصوصاً أن المؤرخ لفت
الانتباه إلى تواجد "عدد لا يحصى من القصور"، ولا أحد يعلم إذا ما كان
قصر الدويرة كان من بين تلك القصور أم لا. وإذا ما كان الأمر كذلك، فمن هؤلاء
الأعراب البخلاء والجبناء الذين كانوا يتحكمون في أمور سكان قصور الرتب ويبسطون
سلطتهم على المكان؟
وصولا
إلى هذه النقطة من البحث، نؤكد على أن دخول مولاي هاشم بن الشريف إلى قصر الدويرة
كان له تأثير كبير على المسار السياسي والاقتصادي للبلدة.
أكد
جل الشيوخ الذين اعتمدنا عليهم في جمع الروايات الشفهية أن مولاي هاشم بن الشريف
هو شقيق السلطان مولاي اسماعيل بن الشريف، ويزكون هذا الطرح بجملة يزعمون أن
السلطان مولاي الشريف بن علي قالها، وهذه القولة هي: "التسلطينة لاسماعيل،
والشجاعة لهاشم."[3
ونظراً
لأهمية هذا المعطى في تيسير هذا البحث، ارتأينا أن نقارن نسبي الشخصين قصد التحقق
من هذه الفرضية. في هذا الصدد، يقول صاحب الاستقصا في نسب السلطان مولاي اسماعيل:
"السلطان إسماعيل مع إخويه الرشيد ومحمد هم أبناء السلطان
الشريف بن الشريف علي المتوفى سنة 1069هـ ودفين مراكش بن الشريف بن محمد بن الشريف
علي بن الشريف يوسف بن الشريف علي (مولاي علي الشريف السجلماسي) بن الشريف الحسن
بن الشريف محمد بن الشريف الحسن الذي دخل المغرب في مطلع القرن السابع الهجري بن
الشريف قاسم بن الشريف محمد بن الشريف ابي القاسم بن الشريف محمد بن الشريف الحسن
بن الشريف عبد الله بن الشريف ابي محمد بن الشريف عرفه بن الشريف الحسن بن الشريف
ابي بكر بن الشريف علي بن الشريف الحسن بن الشريف احمد بن الشريف إسماعيل بن
الشريف محمد النفس الزكية بن امام الفقهاء عبد الله الكامل المحض بن امام التابعين
الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السبط بن امير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب
عليهم السّلام""[4]
وفي
نسب مولاي هاشم بن الشريف نجد حسب ما أورده نقيب الشرفاء العلويين مولاي أحمد
الوليد العلوي بجرسيف:
"هاشم بن الشريف بن علي الشريف دفين مراكش بن محمد بن علي
بن يوسف بن علي الشريف بن الحسن بن محمد
بن الحسن الداخل بن قاسم بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن
محمد بن عرفة بن الحسن بن أبي بكر بن علي بن الحسن بن أحمد بن إسماعيل بن القاسم
بن محمد النفس الزكية بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن سيدنا
علي." 5
ومن
خلال مقارنة النسبين، يتبين بما لا يدع مجالا للشك أن هنالك تطابق بين النسبين.
ولعل ما يزكي هذا الطرح هو ما جاء في كتاب الدرر البهية والجواهر النبوية لصاحبه
مولاي ادريس الفاضلي )1844-1898(، إذ قال إن الشريف بن علي كان له ثمانية عشر
ولداً من بينهم السيد هاشم بن الشريف:
"وكان للسيد الشريف (المولى الشريف بن علي) صاحب الترجمة
ثمانية عشر ولدا وهم السيد أحمد الكبير، والسيد أحمد الصغير والسيد حمادي، والسيد
المهدي، والسيد هاشم، والسيد العباس، والسيد الحران، والسيد محرز، والسيد علي
الكبير، والسيد علي الصغير، والسيد يوسف، والسيد حفيد، والسيد السعيد، والسيد
حجاج، والسيد عبد المالك، والسيد محمد فتحا ()، والسيد الرشيد)، والسيد اسماعيل،
وإنما أعقب من عشرة فقط.." 6
ولما
مر مولاي ادريس الفاضلي على قدماء الأشراف المنتسبين لمولاي الشريف بن علي، قال:
"ومنهم الأسود الكاسرة، والأجواد الباهرة، مأوى الضيوف
والوفود: السيد الحسن بن عبد الله والسيد الحسن بن الصديق والسيد اليزيد بن طاهر
والسيد عبد الملك بن الكبير والسيد الحسن بن عبد الرحمان ولازالوا بصفة الحياة
وغيرهم، كالسيد الجليل الحاج الحلاحل النبيل السيد الفضيل بن عبد الله والشريف
الجواد المفضال السيد المصطفى بن ديدي ولا زالا معاً بقيد الحياة، ولهما عقب
ببلدهما الدويرة." 7
من
خلال ما سبق، يتضح أن فرضية كون مولاي هاشم بن الشريف شقيق السلطان مولاي اسماعيل
هي حقيقة لا كذب، وواقع لا خيال، وهذا موضح، ليس بالروايات الشفوية فحسب، وإنما
بالأدلة التاريخية التي لا يمكن إنكارها. لكن مسألة كون هذا الشخص هو المؤسس الأول
لقصر الدويرة ليست هنالك أدلة تفندها، لكن الفرضية ستظل مطروحة.
وجدير
بالذكر أن مولاي هاشم بن الشريف كانت له ستة أولاد لم نعرف منهم إلا أربعة : مولاي
الكبير، مولاي امحمد، مولاي الغازي ومولاي علي، وكلهم لهم عقب بقصر الدويرة.
خاتمة:
لا
أحد ينكر أن الاهتمام بالتاريخ، ليس في منطقة الجنوب الشرقي خاصة وإنما في مجتمعنا
المغربي قاطبة، يمر بأزمة منذ فترة ليست بالقصيرة، وهذه الأزمة هي انعكاس لأزمة
الثقافة برمتها، إذ لم يعد نرى في التاريخ سوى ضرباً من ضروب التباكي على الحيطان
الخربة والوقوف على الأطلال المنسية. والحق أن في التاريخ قصصا وعبر تعين المرء
على استنهاض همته وربط الماضي بالحاضر.
مراجع:
[2] وصف افريقيا، الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف بليون الافريقي، ترجمه
عن الفرنسية محمد حجي ومحمد الأخضر، الجزء الثاني، منشورات الجمعية المغربية
للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، ص 123 و124.
[3] السلطة لاسماعيل، والشجاعة لهاشم.
[4] الاستقصا… دار الكتاب، الدار البيضاء، 1997، الطبعة الجديدة، الجزء السابع،
ص3.
[5] حسب ما أورده نقيب الشرفاء مولاي أحمد الوليد العلوي بجرسيف في ثبوت نسب
شرفاء قصر الدويرة.
[6] الدرر البهية والجواهر النبوية، ص 180
[7] نفسه، ص 183
رشيد الهاشمي
رشيد الهاشمي

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire